الجمعة، 30 مارس 2012

موعود ، الأغنية العبقريه التي غناها حليم من بليغ حمدي - بقلم د . جمال فياض - عن مجلة زهرة الخليج


موعود ، الأغنية العبقريه التي غناها حليم من بليغ حمدي

====================================

د . جمال فياض - عن مجلة زهرة الخليج

==============

أغلبنا يقول أن عبد الحليم حافظ ما زال حاضرا حتى اليوم رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على وفاته ( توفي في 30 مارس – آذار 1977 ) . وبالطبع ما زالت السيده أم كلثوم تجتاح الجميع ، هي الحاضره في كلّ مكان،غناء وأغانٍ . رغم أنها غابت منذ فبراير – شباط عام 1975 ...

لكننا قد نحتاج لقليل من الملاحظه لنعرف الأسباب الحقيقيه وراء بقاء هذه الأسماء حاضرة في سهراتنا وليالينا ...

إن أغلب أغاني عبد الحليم التي ما زالت تتردد في كل مكان وزمان تبقى هي ذاتها . حاضرة يغنيها الجميع ، ويطلبها الجمهور في كل الأماكن . " موعود " ، زيّ الهوى " ، " جانا الهوى " ، "سوّاح " ، " حاول تفتكرني " ، " أي دمعة حزن لا " ... أما أغاني أم كلثوم التي ما زالنا نرددها ونسمعها بكلّ الأصوات حتى اليوم أكثر من غيرها فهي " سيرة الحب " ، " الحب كلّه " ، "بعيد عنّك "،" ألف ليله وليله "، " فات الميعاد " ، " أنساك " ... أغاني ورده الجزائريه بدورها ما زالت تتكرر بأصوات نجوم اليوم وهي " العيون السود " ، " إسمعوني " ، " دندنه " ، " مالي وأنا مالي " ... ومن غير هذه الأسماء هناك أغان ما زالت حاضرة ويعيد المطربون تسجيلها باصواتهم مثل " عدويه " لمحمد رشدي و " بهيه " لمحمد العزبي و "يانا يانا " و" زي العسل " لصباح و" هوى يا هوى " لعفاف راضي و "أنا بعشقك " و " فاتت سنه " و "الحب اللي كان " وأغلب روائع مياده الحناوي ...

وقد يغيب عن البعض أن النقطة المشتركه بين كلّ هذه الأغاني هو العبقري الذي لم تنجب مثله دولة الموسيقى العربيه بليغ حمدي . وميزة بليغ حمدي أنه سبق عصره ووضع ألحانا تصلح لأجيال آتيه ، وها هو اليوم رفيق الأجيال في كل ما وضعه من ألحان .

فلنستمع معا لأغنية " موعود " وهي واحدة من هذه الأغاني الرائعه التي ما زالت تعيش في القلوب كما لو أنها حديثة العهد ...

موعود

=============

الأغنية الرائعه التي وضعها شعرا الكبير محمد حمزه ولحّنها بليغ حمدي لصوت العندليب عبد الحليم حافظ .وهي جاءت الأغنيه التاليه للأغنية الطويلة الأولى " زي الهوى " ... لنفس الشاعر والملحن .

المقدّمه الموسيقيه

هذه الأغنيه تتميّز بالمقدمه الموسيقيه الغنيّه جدا بالألحان التي تتنقّل بين أجواء ومقامات موسيقيه ومن خلال جمل وأنغام تتضمن الكثير من مشاعر تلامس الأحاسيس بشكل غير عادي. يبدأ اللحن بضرب على الغيتار الكهربائي ( عمر خورشيد ) يليه صخب موسيقي جميل وغنيّ بأجواء الفرح . ثم يتجّه فجأة لوقفة قبل أن نستمع لصولو بديع على الكمان ( أحمد الحفناوي ) الذي يعود ليتحاور مع الغيتار بتناغم جميل جدا ... أما عندما يدخل بليغ حمدي في حركة تاليه الى حالة الفرح الكبير فهنا لا يمكن للسامع أن يتمالك نفسه، حيث حتما سيقوم للرقص أو على الأقلّ فهي ستحرّك فيه مشاعر الفرح الكبير .لقد وضع بليغ حمدي في هذا اللحن مجموعة من الصور الموسيقيه التي توحي أن الذي سيغنّي هذا الموضوع بدأ سعيدا جدا ، قبل أن يتحوّل الى موعود بالعذاب والجراح .... وهنا منتهى العبقريه اللحنيه . في المقدّمه الموسيقيه يوجد مجموعة ألحان تكفي لصناعة ألبوم كامل من عشر أغنيات لأهمّ مطربي هذه الأيام .

الكوبليه الأوّل

بعد ثماني دقائق تقريبا هي مدة المقدمه الموسيقيه الجميله ، يدخل حليم بالغناء بعد تمهيد موسيقي ناعم جدا ...فيقول :"موعود معايا بالعذاب موعود يا قلبي ... ثم ... "عمرك ما شفت معايا فرح ، كلّ مرّه ترجع المشوار بجرح ... " .... هنا حالة من الألم والحزن والشجن الرفيع . ويكرّر الغناء أكثر من مرّة لكي يشعر السامع بحالة من الشبع والأستيعاب الكامل ، الى أن ينقلب التعبير عندما يقول : " وميّل وحدف منديلو وكاتب على طرفو أجيلو ... ثم الى " أمانه يا دنيا أمانه .. تاخدينا للفرحه أمانه " ... هنا تظهر الحالة التفاؤليه في اللحن ويصوّر حالة أنقلابيه واضحه ... " وتخلّلي الحزن بعيد عنّا وتقولي للحبّ استنى ... " . ليردّ الكورال في نهاية الكلام " ميّل وحدف منديلو ، كاتب على طرفو أجيلو ... " وتظهر هنا روح بليغ في الألحان جليّة، فهو أكثر ملحّن استعمل صوت الكورال المكثّف جدا في أغلب أعماله ... وهو الذي يوظّف الأصوات الجميله في الكورال لتؤكّد متانة اللحن وحيويته .ومن الواضح جدا أن الكورال يزيد عدده عن الأعداد التي كان استعملها غيره من الملحنين .... وللكورال دوره الواضح ، كما نلاحظ أن الصوت النسائي - كما دائما في ألحان بليغ- كان طاغيا أكثر من الأصوات الرجاليه ...

الكوبليه الثاني

يدخل اللحن بالكمنجات الكثيفه في ضربات متقطعه لكن متناغمه ، ثم تتناغم مع الغيتار الكهربائي من عند الصوت الغليظ ( الباص) .... وسحبات الكمنجات في الفرقه الماسيه التي كان يقودها الرائع الراحل الكبير أحمد فؤاد حسن كانت دائما كثيفه وجميله ومتقنه كما أضخم الفرق الموسيقيه العالميه . عندما يدخل صوت حليم في " تاني تاني تاني ... " نلاحظ أن بين مغناه وبين الكمنجات حوارا رائعا وجميلا ... فبعد كل كلمة للمطرب تجيبه الكمنجات وكأنها تغنّي معه ، التكرار لنفس الكلمات يأتي عدة مرّات وفي كل مرة بلحن مختلف وبتصاعد جميل جدا . أي أن الملحن وضع اللحن بعدة أشكال لنفس الجملة الشعريه ... للتنويع والتأكيد على الكلمه ... وعندما ينتقل الى آه يا ليلي يا حضن السهارى ، يقطّع الملحّن الكلمات بشكل تراتبي جميل جدا ... " يللي .. شفت .. في عيني الدموع وأنا دايما راجع وحيد .... " لحن تصاعدي وتراتبي .... عبقري ... ثم يلحن العبارة التاليه بنفس الشكل " خللي فجر الحب يطلع بدر يملا مشوارنا الجديد ... " ، نلاحظ هنا صورة شعرية صعبه وجميله تمّ تقطيعها لتسهيل استيعابها وحفظها ... هذا تفصيل على المقاس وتطريز موسيقي متفوّق ... هنا تكمن روعة بليغ حمدي .

الكوبليه الثالث

هناك مقدمه موسيقيه غير عاديه ولا يمكن أن تتكرر في تاريخ الموسيقى العربيه . حيث تتداخل الفرقه الموسيقيه في حوار بين الإيقاعات الطبله والبنغز والمزاهر والكمنجات والناي والأكورديون .... وتتكرر الموسيقى حتى توصل السامع الى نشوة موسيقيه عارمه قبل أن تبدأ بالميل الى بعض الهدوء التدريجي ليبدأ المطرب باستلام الغناء بشكل سلس ليقول " ... وابتدا ابتدا ابتدا المشوار ... وآه يا خوفي من آخر المشوار ... " ، هنا يصوّر اللحن فرحا ممزوجا بقلق ... منتهى الجمال والروعه عندما يمزج الإحساس لحنيا ، لينتقل الى مزيد من التوتّر والحيره ... " جنّه والا نار آه يا عيني ، رايح وانا محتار آه خوفي ... " ،ليضع الملحن جملة موسيقيه عبقريه بعد هذا الكلام المكرّر ... ثم يتركه ليتسلّم الغناء من جديد عند "واتقابلنا ... والحياة قدام عينينا حلوه ... إتقابلنا والكلام فوق الشفايف غنوه " .هنا تظهر قدرات بليغ حمدي الفظيعه في التفصيل الغنيّ وفي التلحين السخيّ ، حيث تظهر موهبة اللحن عندما ينقلب بلفتة موسيقيه خارقه ... " الأمان في عينيها " ... ولا يمكن إغفال الكلام .." والحنان خد مني وإدفى يلّلي محروم م الحنان ..." ... سيلاحظ السامع تصويرا بديعا لصورة " والقمر طِلِع ... والخوف بِعِد ... " . كم كان بليغ رائعا في كل جملة وكلّ تفصيل ...

الكوبليه الرابع

تدخل الموسيقى على السامع بضربة غليظه على كامل أوتار الغيتار الكهربائي ، لتتبعه الكمنجات ثم صولو قصير وهو تدخّل محبّب للأكورديون الكهربائي ، ثم دخول انسيابي لصوت حليم في عملية تسليم رومانسيه بارعه .... " شوف بقينا فين يا قلبي ، وهي راحت فين ... وشوف خدتنا لفين يا قلبي وهي راحت فين ... " ، هنا شكوى وندامه وأسف ، لينتقل بعدها اللحن بإصرار وكأنها حالة تمرّد وأنتفاضه ... " في سكّة زمان راجعين ، في نفس المكان ضايعين في نفس المكان ... لا جراحنا بتهدا يا قلبي ولا ننسى اللي كان يا قلبي .. " عند لا جراحنا بتهدا ... يهدأ اللحن ، صورة مطابقه لمعني الكلام . حالة تصويريه عبقريه بصوت عبقري الأداء ، نسبح في بحر من الموسيقى الجميله وغناء صلب ومتمكّن ... هو حليم صاحب الإحساس غير العادي . ورغم صعود الطبقه اللحنيه ، يبقى حليم محافظا على أداء قويّ ومتمكّن ، مع محافظته على سلامة الأداء وعرض الصوت . عند " لا جراحنا بتهدا يا قلبي ولا ننسى اللي كان يا قلبي ... شوف " ، تظهر جرحة بكائيه في صوت حليم وهو نوع من التمثيل الدرامي في الغناء نادرا ما نجد صوتا يجيده . وعند عبارة " والناي الحزين " يظهر أداء الراحل محمد عفّت ( الناي ) مجيبا بشكل يمسّ الشعور وكل الأحاسيس ... وعندما يصل الى "تاني تاني تاني ، راجعين أنا وانت تاني " ... تظهر ضربات البنغز الإيقاعيه واضحة وكأنها خطوات تشير للعودة للنار للعذاب من تاني .... تصوير بديع . ولا يمكننا أن نغفل قدرات الموسيقار الكبير أحمد فؤاد حسن في توزيعه لهذا اللحن الرائع . وعندما يذهب اللحن الى النهايه ، يقفل حليم أداء الأغنيه ب " إستنى استناه ...." حيث يطيلها أكثر من باقي القفلات ، لينهي الغناء وتتابع الموسيقى بشكل فني غير عادي ...

أغنية " موعود " واحدة من عبقريات كثيره وضعها بليغ حمدي الموسيقار العبقري ، وواحدة من الأغاني التي لا تموت . مهما توالت الأجيال والسنين . حيث فيها تنوّع غير مألوف عند باقي الملحنين ، وسخاء يؤكّد أن بليغ كان يلحّن بحالة من الأنسجام والحبّ البليغ .وهو أعطى لحليم في هذه الأغنية أغنية عمره التي لا يمكن التوقّف عن توصيفها وتشريحها والبحث في تفاصيلها الموسيقيه .