قراءة في قصيدة الأطلال ...
إحدى أروع الأعمال الغنائيه في تاريخ الغناء العربي
================================
جمال فيّاض
---------------------
أعرف سلفا أنها جرأة ما بعدها جرأة أن يقترب أي شخص من هذا العمل الغنائي الجبّار الذي تشارك في صنعه ثلاثة من كبار الشعر والموسيقى والغناء.هم الشاعر الدكتور ابراهيم ناجي والموسيقار رياض السنباطي والسيّده أم كلثوم. لكنها محاولة متواضعه لسماع هذا العمل مع بعض القراء من جيلنا أو الجيل الجديد الذين ربما لم يعرفوا بعد ما هي القيمة الحقيقيه لهذه التحفة الموسيقية والشعرية والغنائية في آن ...
قد لا يعرف البعض أن قصيدة " الأطلال" عبارة عن أبيات مأخوذة ومجمّعة من قصيدتين مختلفتين للشاعر الكبير ابراهيم ناجي وهما قصيدة " الأطلال" وقصيدة " الوداع" . وقد تناول الملحن والفنان الراحل محمد فوزي أبيات من قصيدة "الوداع" ولحنها لتغنيها القديرة الراحله نجاة علي بصوتها ( وأحتفظ شخصيا بالتسجيل النادر والمنسي لها ) والأبيات التي لحنها فوزي قبل السنباطي بعدة سنوات هي من عند " هل رأى الحبّ سكارى ...."حتى "... فسبقنا ظلّنا " ... واللحن الذي وضعه الفنان الكبير محمد فوزي لهذه الأبيات مختلف تماما عن اللحن الذي وضعه لها لاحقا الموسيقار رياض السنباطي لتغنيه أم كلثوم.
تقول الحكاية الشائعه أن الشاعر الراحل الدكتور ابراهيم ناجي وهو كان طبيبا باطنيا، جاء يوما ليطبّب والدة الفنانة والممثلة الراحله زوزو حمدي الحكيم ( بطلة الفيلم الشهير ريّا وسكينه) وقد أُعجب بها فكتب فيها بعض أبيات جميلة على قفا وصفة دواء والدتها، وكانت هذه الأبيات جزءا من قصيدة "الأطلال" التي سمعناها لاحقا ... لكن إبنته تنكر هذه الحكاية وتقول أن والدها كان يكتب قصائده أحيانا على "روشتات" المرضى وكانت مريضاته تعتبرنها لهن ، والحقيقة أن القصيدة كتبها في جارة كان يحبها ولما تزوجت من غيره أصيب بصدمة واستفاق منها بعد فترة طويلة وكانت منه هذه الأبيات ...
وأيا تكن ملهمة الشاعر، فنحن نستمتع لهذه الحالة الإبداعية التي منحها الله لهؤلاء الثلاثة معا ليتركوا لأجيال قادمة إحدى روائع العصر، من حفلة أم كلثوم في "الأولمبيا في باريس" التي أحيتها في 12 نوفبر 1967 ، وهي كانت تقوم بجولة فنية طويله تبرعت بريعها في حينه لدعم الجيش المصري إثر حرب حزيران 1967. وفي هذه الحفلة المصوّره للتلفزيون حادثة شهيرة حصلت، حيث هجم مستمع جزائري على السيّده أم كلثوم في غفلة من رجال الأمن، ليقبّل قدميها عندما وصل الى ذروة النشوة، فأوقعها على أرض المسرح.
فلسنتمع معا ... ولننتبه لما سنسمعه ..
تبدأ الوتريات مجتمعة وبصوت موحّد من جواب بعيد ، لتجيب نفسها مضافة اليها مجموعة غنيّة من التشيللوهات بعزف ساحر، فيدخل على الحوار القانون ويصبح هناك نوع من التزاوج بين الروح السيمفونية التي تطلقها آلات السحب ( الوتريات ) والقانون على موسيقى حرّة وبدون إيقاعات محدّده ... على مقام الرست الذي تفذلك وتلاعب به رياض السنباطي كثيرا، وعلى مشتقات عديدة من المقامات الصعبه حتى وصل الى أقصى درجات الإبداع الموسيقي . ثم تتسلّم أم كلثوم لتبدأ بتطريب بديع في " يا فؤادي لا تسل أين الهوى .. ". وتبدأ بالتلوين بالأداء منذ المطلع فتغنّي اللحن بعدة أساليب وتعيد كلّ مرّة بشكل ساحر أكثر من سابقه "لست أنساك وقد أغريتني..." حتى تُشبع السامع وتروي السمع لتدخل الموسيقى وتمهّد لمقطع القصيدة التالي بلحن مضبوط على إيقاع هاديء رائع من الكورد الجميل والغني بالتنويع الموسيقي. ثم يعرّج اللحن على مقام الصبا لتدخل في " يا حبيبا زرت يوما أيكه ..."وعند نهاية الأداء اللذيذ والجميل تبدأ مقدّمة موسيقية فيها الكثير من الزخم والغنى، وتتسلّم أم كلثوم الغناء من مقام النهاوند لتذهب ومع جنون الجمهور تصرخ بدعوة فيها الكثير من العزّة والكبرياء الى "أعطني حرّيتي أطلق يديّا ... "،وهنا تبرز كل الآلات الموسيقية من كمنجات وناي والرقّ الذي يضبط بضربات واضحة الإيقاع الجميل لموسيقى ساحرة وهي تتابع على النهاوند الى أن تصل الى "آه من قيدك أدمى معصمي ... " وعند ال " آآآآه" تطيل أم كلثوم لفظ الآه بحرقة واضحة تلهب الأكف لهذا الأداء الساحر والبديع ...
عند "أين من عيني حبيب..." يداعب رياض السنباطي اللحن والكلمات بغزل واضح على الرست، ولا يظلّ اللحن على الرست بل يتنوّع طويلا وكثيرا بأشكال وألوان من المقامات تظهر مدى تفوّق الملحن وخبرته في التلاعب على النغمات بما يذهل ويحيّر السامع سواء كان خبيرا أم مجرّد سامع بسيط بريء من عجقة المقامات وعلمها.
تهدأ الموسيقى لنستمع الى صولو على القانون يسلّم المطربة "أين مني مجلسٌ أنت به ..." وأين منّي.." تطول وتطول وكأن أم كلثوم التي رفضت دائما وبشكل حازم أن تغني الموال في كلّ أغانيها تجد هنا مجالا للتطريب على طريقتها ، وهي تشبعنا إعادة وتلوينا في الأداء لتنتقل بعدها الى في ارتفاع تدريجي جميل ... " وأنا حبٌّ ... وقلب هائم وفراشٌ حائرٌ منك دنا .." ، وعند من الشوقِرسولٌ بيننا " تكون عند مقام الرست ، ثم ترتفع الى "نديم قدّم الكأس لنا ..."، وعند التسليم تكون قد أفاضت بأداء "الكأس لنا..."، بلحن مختلف عما كان عليه في المرّة الأولى ... لتنطلق الى أحلى مقاطع القصيدة وتتسلّم من نفسها بأعلى الممكن لحنيا "هل رأى الحبّ سكارى ... سكارى بيننا ..." وعلى مقام راحة الأرواح الذي يتميّز بأنه كما هو إسمه "راحة الأرواح" ... وترتاح الأذن والروح وكلّ المشاعر عند هذا الأداء البديع والجميل الذي يفسح لصوت أم كلثوم أن يُعطي أجمل ما عندها من إحساس وأداء وقدرات على التنغيم والتغنيج في الغناء البديع ... وأجمل ما في أداء أم كلثوم هنا أنها تتجاوب بكثير من الذكاء مع لحن السنباطي الذي يضع في كلّ إعادة لهذه الأبيات شكلا لحنيا مختلفا ومميزا عن السابق ... وتصل أم كلثوم ومعها المستمع الى ذروة الإحساس والإنسجام. واللحن هنا يتنقّل بين مقامات مختلفه كلها تلبس بعضها بأناقة وجمال من الحجاز الى البيات والرست.
في الدقيقة ال (38) تتوقف الموسيقى فجأة ، ونسمع بعض الفوضى والضجيج غير المألوف لقد هجم أحد الحاضرين على الستّ وانحنى عند قدميها ليقبّلها فأسقطها على الأرض ونسمع أحد أعضاء الفرقة الموسيقية يقول "كمّل، كمّل " ... لكن الموسيقى تتوقف نهائيا ها هنا وإذا أم كلثوم تقول متفاجئة به :" إيه ده ... إيه ده" ثم يساعدها البعض على الوقوف لتتابع الموسيقى وتتسلّم منها من جديد " هل رأى الحبّ سكارى .." وسط تصفيق هائل، ومذهل يجعلها تتوقف عن الغناء لفترة طويله قبل أن تتابع من جديد.
وعند "سكارى.." الأخيره تقفل أم كلثوم على مقام البيات تمهيدا لتتسلّم من جديد عند "وأنتبهنا بعدما زال الرحيق..." وهنا يختلط النهاوند بالحجاز وهذا أمر ليس عاديا كتركيب لحني صعب، يحقق فيه السنباطي روعة من تركيبة لحنه الإعجازي هذا.
وعندما تصل أم كلثوم الى "وأنتبهنا بعدما زال الرحيق..." تكون قد تسلّمت الغناء من موسيقى بمنتهى الجمال على مقام النهاوند الجميل والعذب.. والذي لا يستمر اللحن عليه بل ينتقل الى الحجاز من جديد وبوضوح تام "...يقظة طاحت ...". ولا يمكن المرور على "أيها الساهر تغفو ..." دون تنويه بالإعجاز اللحني الجميل والأداء المتين والمبهر والشعر البديع. لنصل الى حيث تقول أم كلثوم بإحساس غريب عجيب " جدّ في التذكار جرحُ ، فتعلّم كيف تنسى ةتعلّم كيف تمحو"... بعد هذا تقدّم الموسيقى بصخب جميل جدا وعلى مقام راحة الأرواح .. تتسلّم أم كلثوم الغناء من جديد قائلة : "يا حبيبي كل شيء بقضاء، ما بأيدينا خُلقنا تُعساء ..." حجاز وبياتي وراحة الأرواح كلها مقامات تتداخل في لحن غير مألوف على شعر متين ومطرّز العبارات والأبيات لتقفل أم كلثوم عند "فإن الحظّ شاء ...". وتنتهي الحفلة بتصفيق هستيري من جمهور عربي في "أولمبيا – باريس".
لا يمكن وصف روعة "الأطلال" بسطور قليلة سواء بلحنها الغنيّ المتنوّع البديع أم بشعر ابراهيم ناجي الرائع أم بأداء سيّدة الغناء التي لا يمكن أن تنساها الأزمان ... فقط هي مجرّد حالة إستماع بسيطة لإحدى أجمل وأروع الأعمال الغنائية التي عرفها القرن الماضي والتي دون شكّ لا يمكن أن تأتي في الأزمان القادمة قصائد أو ألحان أو أداء غنائي يمكن أن يوازيها روعة...